بسم الله الرحمن الرحيم
المحاضرة السابعة في مادة:
نظرية الإلتزام في الفقه الإسلامي فوج ¾
**************************
« عيوب الإرادة (تتمة) »
3.
الإكـــــراه:
يُعرف الإكراه في الفقه على أنه "حمل الغير على ما لا يرضاه" ،
كما لو أمسك المُجبر يد المُكرَه مرغِما إياه على وضع بصمة أصبعه على العقد ، إذ
في هذه الحالة لا يمكن القول بوجود الإرادة وبالتالي يعتبر العقد باطلا بطلانا
مطلقاً. ويعتبر عيب الإكراه أوضح عيوب الرضا وأقواها حضورا عند الفقهاء ، بحيث
توسعوا في قضاياه .
~ فالمذهب الشافعي يشدد في جزاء
هذا العيب حتى يجعله مبطلا للعقد.
~ ونجد في المذهب الحنفي أن
أحكامهم مترددة في الإكراه بين حكمي الفساد والتوقف.
~ أما مذهب المالكية فيرى أن
الإكراه لا يلزم منه العقد ، بحيث يبقى متوقفا على إرادة المكرَه إما بالفسخ وإما
بالإمضاء.
§
والإكراه عند الفقهاء نوعان:
~ إكراه ملجئ: وهو مقدر بجسامة الإكراه ، بحيث يقاس بمدى الإضطرار
فيه ، لذلك يربط بتلف النفس أو العضو ، فهذا يعدم الرضا ويفسد الإختيار.
~ والإكراه الناقص: وهو الذي لا يخاف منه تلف النفس ، فيعدم الرضا ولا يفسد
الإختيار.
§
شروط قيام الإكراه كسبب معيب للإرادة: وهي ثلاثة شروط :
1.
حصول الرهبة في نفس المكره: ولا يشترط في حصولها أن تختص بشخص المتعاقد أو
بماله أو بشرفه، بل قد تحقق حتى إذا تعدى التهديد إلى إلحاق الأذى بمن تربطه بالعاقد
رابطة من قرابة أو نسب أو غيرها.
2.
تحقق قدرة المكرِه على إيقاع تهديده: بحيث لو كان مجرد وهم ملازم للمكرَه
لم يعتبر.
3.
أن يكون الإكراه غير مشروع: ويكون بحصول المُكرِه على ما لا حق له فيه ،
وقد يكون مرفوقا بوسائل هي أيضا غير مشروع ، كمن يهدد آخر بالتشهير به إن لم يدفع
له مبلغا من المال وقد تكون وسيلة الإكراه مشروعه ، كدائن يهدد مدينه بالتنفيذ من
طريق الحجز على أمواله إن لم يتعهد بدفع مبلغ آخر لاحق للدائن فيه.
« محــل الـعـقـد »
· تعريف:
محل العقد هو المعقود عليه الذي يظهر أثر
العقد فيه ، ولا عقد بلا محل ، وتختلف طبيعة هذا المحل باختلاف أنواع العقود ، فقد
يكون محل العقد من الأعيان المالية أو المنافع أو الأعمال ، فعقد البيع والرهن
والهبة مثلا محل العقد فيه عين مالية ، وعقد الإجارة والإعارة ، محلها المنفعة و
الإنتفاع ، وعقد المزارعة و الإستصناع محله العمل.
· شروط المحل:
ذكر الفقهاء على أن محل العقد تلزمه أربعة
شروط ، وهي:
1.
أن يكون المحل موجودا أو ممكن الوجود:
وهو الشرط الذي نال مجمل اهتمام الفقهاء ، فقد اتفقوا على أن الشيء المعدوم
الذي يستحيل وجوده في المستقبل لا يصلح أن يكون محلا للعقد سواء كان ذلك عينا أو
منفعة.
فالحنفية ومعهم الشافعية يشترط أن يكون المحل موجودا في جميع العقود ولا
فرق بين عقد معاوضة ولا عقد تبرع ، فلا يصح عندهم بيع المعدوم ولا هبته ولا رهنه ،
وكذلك ما يتيقن وجوده كاللبن في الضرع لاحتمال عدمه بأن يكون انتفاخا ، والحمل في
البطن لاحتمال أن يولد ميتا.
والمالكية يشترطون ذلك في عقود المعاوضات فقط ، وأما عقود التبرعات كالهبة
والوقف فيصح أن يكون المحل فيها معدوما ، كأن يهب الشخص ما ينتجه الشجر أو النخيل
من الثمر، ومثلها في ذلك الرهن ، ومع اشتراطهم وجود المحل في عقود المعاوضات ، فقد
جوزوا بيع المعدوم في الخضروات التي تظهر شيئا فشيئا كالبطيخ والباذنجان والخيار
وما شاكلها ، لضرورة أنها لا تظهر دفعة واحدة ، فلو منع بيعها حتى توجد كلها لوقع
الناس في الحرج.
والحنابلة خصوصا ابن تيمية وابن القيم لا يشترطون وجود المحل في أي عقد
فيجوزون بيع المعدوم ما دام خاليا من الغرر ، على معنى أن يكون مقدورا على تسليمه.
ولتوضيح هذا المنحى أكثر نذكر الحالات التي تعتري المحل غيابا وتنوع الحكم
فيها بحسب علة الجهالة والغرر وجودا وعدما.
وهكذا فإن هناك حالتين خارجتين عن موضع تاغموض ، وهما:
- حالة وجود المحل كاملا وقت التعاقد: فهذا
عقد صحيح اتفاقا.
- حالة انعدام المحل انعداما كليا في الحال والإستقبال ، فهذا
عقد باطل بلا جدال أيضا.
لتبقى ثلاث حالات يلزم التوقف عندها:
أ.
المحل غير موجود وقت العقد لكنه محقق الوجود مستقبلا: وهي التي يمتلها بيع السلم[1] وعقد الإستصناع[2] بامتياز ، بحيت صح التعاقد فيهما رغم انعدام المحل وقت
التعاقد.
ب.
المحل موجود في أصله وقت العقد لكنه يكتمل مستقبلا: كبيع الزرع أو الثمر بعد الظهور وقبل بدو الصلاح .
ج. المحل غير موجود وقت
العقد لكنه محتمل الوجود مستقبلا: وأكثر أمثلته بيع اللبن في الضرع وبيع الحمل ، فهذه بيوعٌ الغررُ فيها
واضح ، لذلك فدخول عامل الجهالة مانع من الإنعقاد.
2.
أن يكون المحل ممكنا:
المقصود به أن يكون المحل مقدور التسليم من غير ضرر يغيره. ومعنى قدرة
التسليم: هو أن المحل إذا كان معجوز التسليم لا ينعقد العقد وإن كان مملوكاً .
وهذا الشرط محل اتفاق بين الفقهاء في عقود المعاوضة ، أما في عقود التبرع فقد أجاز
فيها المالكية التعاقد ولو كان المحل غير مقدور التسليم حين العقد ، كهبة الحيوان
الشارد ، كما أجاز الشافعية الوصية فيما يعجز عن تسليمه.
أما معنى التسليم من غير ضرر فهي من شروط المحل حين العقد ، وهو شرط
يظهر منه أن الفقه الإسلامي لم يكتف بمجرد التسليم ، بل ألزم أن يبقى المحل المسلم
من غير تغيير ، بحيث لو وفع تغيير فيه كان ذلك مدعاة لفساد العقد وطلب الإبطال.
3.
أن يكون المحل معينا أو قابل للتعيين:
إذا
كان محل الإلتزام عملا أو امتناع عن عمل وجب أن يكون العمل الواجب القيام به أو
الإمتناع عنه معينا أو قابل للتعيين ، أما إذا لم يكن العمل معين أو قابل للتعيين
فإن المحل يكون في حكم المعدوم ، وإذا كان الشيء من المثليات فإنه يعين بذكر جنسه
ونوعه ومقداره والأصل أن التعيين الكامل يقتضي تعيين درجة الجودة ولكن إذا لم تذكر
يمكن استخلاص ذلك من ظروف التعاقد.
4.
أن يكون المحل قابلا أو صالحا للتعامل فيه:
و
يقصد بذلك ألا يكون المحل مخالفا للقانون والشرع أو للنظام العام والآداب أو خارجا
عن دائرة التعامل سواء بحكم القانون أو الشرع أو بطبيعته. وهذه الصلاحية تستوجب أن
تكون لها قابلية تتعلق بعين المحل كأن يكون طاهراً ، في ذاته فلا يجوز أن يكون محل
العقد خمراً أو خنزيراً أو غيرها من الأشياء النجسة ، وأن يكون مملوكاً لأحد
العاقدين فلا يقع بيع الطير في الهواء أو السمك في البحر مثلا ، وأن يكون مما
ينتفع به شرعاً فلا يصح بيع الذباب ونحوه
مما لا نفع فيه .
· الإشتراط وصلته بالصلاحية :
وهي ما يشترطه العاقدان أو أحدهما لتحقيق بعض المصالح
الخاصة مما لم يرد به نص في الشرع ، وهي:
1.
شرط يقتضيه العقد:
اتفق الفقهاء على وجوب الوفاء بالشرط، إذا كان
مما يقتضيه العقد؛ كالعِشرة بالمعروف ، أو مما يؤكِّد ما يقتضيه العقد ، كأن يكون
والد الزوج كفيلاً بدفْع المَهرِ ، أو مما جاء الشرع بجوازه ، أو جرى به العرف ،
كأن يعجل بعض المهر، أو ألا تخرج الزوجة من البيت إلا بإذن زوجها ، أو كاشتراط
البرائة من العيوب في الحيوان.
2.
شروط يناقض العقد:
واتفق الفقهاء على فساد الشرط الذي ينافي ما
يقتضيه العقد ، كأن يشترط البائع على المشتري أن لا يتسلم المبيع أو أن لا ينتفع
به ،أو كأن يشترط الزوج على زوجته ألا مهر لها ولا نفقة ، وكذلك الشرط الذي يتعارض
مع النظام الشرعي العام ، أو يتعارض مع نصٍّ شرعي ، كأن تشترط المرأة طلاق ضرتها ،
لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسأل المرأة طلاق أختها ، لتَستكفيء إناءها)) [رواه
البخاري في صحيحه] ، وهذه
كلها شروط باطلة.
3.
شروط لا يقتضيه العقد ولا تنفيه:
اختلف الفقهاء في الشروط التي لا يقتضيها العقد
، ولا تؤكد ما يقتضيه ، وقد سموها «الشروط
الجعلية» ، ولكن فيها مصلحة لأحد المتعاقدين ، كأن تشترط المرأة
على زوجها ألا يسافر بها من بلدها ، أو ألا يتزوج عليها ، أو أن تدرس على نفقته
الخاصة.
« آثــار الـعـقـد »
قبل الإشارة إلى آثار العقد ، يلزم
التنبيه إلى أن المقصود بها آثار العقد الصحيح دون غيره . وقد ذهب الفقهاء إلى أنّ
العقد باعتبار إقرار الشّرع له وترتيب آثاره عليه وعدم ذلك ينقسم إلى قسمين: العقد
الصّحيح، والعقد غير الصّحيح (الباطل).
و قد قسّم الحنفيّة العقد غير الصّحيح إلى: عقد باطل وعقد
فاسد.
فالعقد الباطل: هو ما لا يعتبره
الشّرع ، ولا يترتّب عليه مقصوده. أو هو: ما لا يكون مشروعاً أصلاً ووصفاً، لاختلال
ركن أو أكثر ، فهذا لا ينتج أي أثر لأنه
في حكم المعدوم.
أما العقد الفاسد: فهو ما
كان مشروعاً بأصله دون وصفه
لاختلال شرط من شروطه اللازمة ، لذلك كان وسطا بين الصحيح والباطل ، لأنه يمكن
تصحيحه بإزالة الوصف الفاسد ، فمتى تحقق ذلك رتب آثاراً كالعقد الصحيح.
وأما العقد الصّحيح: هو ما كان مشروعاً بأصله
ووصفه معاً ، بحيث يكون مستجمعاً لأركانه وأوصافه ، فيترتّب عليه أثره المقصود منه
، كبيع العاقل البالغ المال المتقوّم الموجود القابل للتّسليم بإيجاب وقبول معتبرين
شرعاً ، فإنّه يترتّب عليه أثره من نقل ملكيّة المبيع للمشتري ونقل ملكيّة الثّمن للبائع،
وكالإجارة للانتفاع بعين موجودة انتفاعاً مشروعاً ، فيترتّب عليها أثرها المقصود منها
من نقل الانتفاع إلى المستأجر والأجرة إلى المؤجّر، وهكذا في سائر العقود إذا لم يقع
خلل في أركانها أو شروطها.
وعموما فإن هذه الإشارة ضرورية قبل التعرض
لآثار العقد الصحيح التي تتنوع بحسب ما إذا تعلق ذلك الأثر بالعاقدين ومن في
حكمهما أو تعلق بمحل العقد .
· آثار العقد الصحيح :
تترتب على العقد الصحيح جملة آثار شرعية ، اتفق
العلماء عليها إجمالاً ، واختلفوا في بعض تفاصيلها وأول هذه الآثار :
1. الحق
في توضيح العقد (تفسيره):
أول آثار العقد حق العاقدين في
وضوح مضامينه ، بحيث إذا اعترته عبارات غامضة خِيف منه أن لا تكون مُتَرجِمة
لإرادة العاقدين أو لأحدهما كان من حق المتضرر التماس تفسير العقد. والتفسير عملية
منوطة بالقاضي أو الحَكَم - الوسيط بعبارة العصر – طلبا للإرادة الظاهرة المشتركة للمتعاقدين.
2. نشوء الإلتزام:
مفاد هذا الأثر أن قيام العقد
مرتبط بقيام التزامات متبادلة بين العاقدين ، بمعنى قيام المسؤولية العقدية ،
والأثر المقصود فيها هو ان عدم قيام الملتزم في العقد بتنفيذ التزاماته يخول
العاقد الآخر المطالبة بتنفيذه جبراً من طريق القضاء ، لقاعدة « العقد شريعة المتعاقدين ». ولكي تتحقق هذه المسؤولية العقدية
لابد لها من أركان تقوم عليها وهي : حصول الخطأ ، تحقق الضرر ، وجود علاقة السببية
بين الخطأ والضرر.
تمت المحاضرة بحمد الله
لتحميل المحاضرة بصيغة PDF إضغط هنا
0 تعليقات على " المحاضرة السابعة في مادة نظرية الإلتزام في الفقه الإسلامي "