بسم الله الرحمن الرحيم
المحاضرة السابعة في مادة:
علوم القرآن فوج ¾
**************************
« الناسخ والمنسوخ (تتمة) »
·
تعريف النَّسخ في الاصطلاح:
النَّسخ في الاصطلاح: رفع حكم شرعي بدليل شرعي
متراخٍ عنه، أو رفع حكم شرعي بمثله مع تراخيه عنه.
وقد اختلف فيه عند الأصوليين على أقوال:
فقيل: "إزالة مثل الحكم الثابت بقول
منقول عن الله تعالى أو عن رسوله، مع تراخيه عنه على وجهٍ لولاه لكان ثابتًا.
وقيل: هو إزالة الحُكم بعد استقراره.
وقيل: هو نقل الحكم إلى خلافه..
وقد
أبطل الإمام الآمدي هذه الأقوال بوجوه.
وأما
التعريفُ الذي ارتضاه كثير من الأصوليين - كالآمدي والقاضي أبي بكر الباقلاني
والصيرفي وأبي إسحاق الشيرازي وأبي حامد الغزالي وغيرهم - أن النَّسخ هو: "الخطاب
الدال على ارتفاع الحُكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجهٍ لولاه لكان ثابتًا، مع
تراخيه عنه".
وقد بين الإمام الشوكاني أهمية هذه القيود
التي ذكرها العلماء في هذا التعريف، فقال: وإنما آثَروا الخطاب على النص، ليكون
شاملاً للفظ، والفحوى، والمفهوم ، فإنه يجوز نسخ جميع ذلك.
وقالوا: الدال على ارتفاع الحكم، ليتناول
الأمر، و النهي، والخبر، وجميع أنواع الحُكم.
وقالوا بالخطاب المتقدم، ليخرج إيجاب العبادات
ابتداءً، فإنه يزيل حُكم العقل ببراءة الذمة، ولا يسمى نسخًا ، لأنه لم يزَلْ حُكم
خطاب.
وقالوا: على وجه لولاه لكان ثابتًا ، أي: لولا ذلك الوجه لكان
الحكم ثابتاً.
وقد رد الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى على
هذا التعريف من عدة وجوه، ثم ذكر تعاريف أخرَ، وختم بقوله: "فالأولى أن يقال:
هو رفع حكم شرعي بمثله مع تراخيه عنه".
وقد تردد هذا المعنى في
كتاب الرسالة للشافعي في أكثر من موضع ، من نحو قوله: « ومعنى
نُسِخَ: تُرك فرضُه » وقال « وليس يُنسخ
فرض أبدا إلا أُثبت مكانه فرض ، كما نُسخت قِبلة بيت المقدس ، فأُثبت مكانها
الكعبة. وكل منسوخ في كتاب وسنة هكذا » وقال « و إنما
يعرف الناسخ بالآخِرِ من الأمرين ».
أما قبل الإمام الشافعي ، فقد كان إطلاق النسخ أعم من إطلاقه بعده ،
فسموا التخصيص نسخاً ، لأنه رفع لبعض ما يتناوله العموم ، وسموا الإستثناء والشرط
نسخا لأنه رفع دلالة الظاهر وبيان المراد ، وسموا تقييد المطلق نسخا ، وسموا بيان
المبهم أو المجمل نسخا ، ..... إلى غير ذلك مما يستفاد من إطلاقاتهم ، مما أشكل
على كثير من المهتمين في العصور المختلفة.
·
حُكْمُ النسخ:
أجمع العلماء على جواز النسخ ، ووقوعه
فعلاً.
واستدلوا بنحو قوله تعالى: { مَا
نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ
تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:106] .
وقوله تعالى: { وَإِذَا
بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ۙ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا
أَنتَ مُفْتَرٍ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل:101] ، قال مجاهد: { وَإِذَا
بَدَّلْنَا} رفعناها فأنزلنا غيرها. وقال
قتادة: هو كقوله تعالى: {ما ننسخ من آية ....}.
وقوله تعالى: { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] وهذه
الآية وإن كانت عامة في ما يشاء الله محوه ، كمحو الذنوب بالمغفرة ، وغير ذلك ،
فإنه يصح إدراج الناسخ والمنسوخ في دلالتها ، كما روي عن ابن عباس ، وقتادة وسعيد
بن جبير وغيرهما أنهم قالوا: يمحوا الله مايشاء من
الشرائع والفرائض ، فينسخه ويبدله ، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه . وجملة الناسخ والمنسوخ عنده في أم
الكتاب.
كما استدلوا بقوله تعالى: { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:144] . قال أبو عبد الله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: « في هذه
الآية دليل واضح على أن في أحكام الله تعالى وكتابه ناسخاً ومنسوخاً ».
كما تضافرت الروايات الصحيحة ، على أن النسخ قد وقع في بعض القرآن والأحكام
المنزلة ، وتواتر عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر النسخ والقول به ،
كما ذهب غلى القول به عامة أئمة الإسلام من السلف والخلف.
قال ابن الجوزي: « انعقد
إجماع العلماء على هذا ، إلا أنه قد شذ من لا يُلتفت إليه ».
وقال أبو جعفر النحاس: « من
المتأخرين (يقصد هنا أبو مسلم الأصفهانى) من قال:
ليس في كتاب الله عز وجل ناسخ ولا منسوخ ، وكابر العيان ، واتبع غير سبيل المؤمنين
».
وأبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني (ت321هـ) من
فقهاء المعتزلة وهو ممن خالف الإجماع في هذه المسألة ، فذهب إلى عدم وقوع النسخ في
القرآن مطلقاً ، وأن ما قيل فيه النسخ ، يمكن تخريجه على وجه من وجوه التخصيص
والتاويل ، لذلك قال السبكي في جمع الجوامع: « فقيل: خالف
، فالخلف لفظي ».
على أن ابن حزم يرى في كتابه الإحكام في أصول
الأحكام: « أنه لم
يخالف في ثبوت النسخ أحد من اهل الإسلام ، وأن من نسب إلى بعض المتأخرين (أبو مسلم الأصفهانى) ، فهو على
نذرته خلاف منهم في اللفظ ، لا في المعنى ».
·
حِكَمُ النسخ:
ذكر العلماء للنسخ حِكَماً مدار معظمها على تحقيق مصالح العباد في العاجلة والآجلة.
~
فتارة ينزل الوحي بالحكم ، ثم ينسخه لاختبار صدق إيمان المكلفين.
و من ذلك ، نسخ القبلة من المسجد الأقصى إلى
المسجد الحرام في قوله تعالى: { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ } [البقرة:144] .
وذهب جمهور أهل العلم إلى أن استقبال قبلة بيت
المقدس ، كان بوحي الله تعالى وأمره لا محالة ، ثم نسخ ذلك ، بالأمر بالتوجه شطر
المسجد الحرام. يقول تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي
كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ
عَقِبَيْهِ } [البقرة:143] .
~ و
تارة من أجل إقرار مبدإ التدرج في التشريع ، لكون الناس حديثي العهد بالجاهلية ،
ومثاله التدرج في الصلاة في قلة الركعات ، ثم نسخ ذلك بفرض الصلوات بركعاتها
المعلومة.
~ و تارة من أجل رفع الحرج عن المكلفين ، بما سبق من أنواع
التكليف. ومن ذلك ، حكم عدة
المتوفي عنها زوجها ، التي كانت سنة كاملة ، في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ
غَيْرَ إِخْرَاجٍ } [البقرة:240] ثم نسخت بأربعة أشهر وعشرا ، في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [ البقرة:234].
~ ومن الحكم كذلك تثبيت المؤمنين على الحق ، بإظهار
المقاصد العامة من إنزال القرآن الكريم ناسخه ومنسوخه ، وذلك في قول الله تعالى
رداً على المشركين الذين جحدوا النسخ ، وذلك في قوله تعالى: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ
لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل:102] ، بعد قوله تعالى: { إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ
ۙ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ
لَا يَعْلَمُونَ } [النحل:101].
·
أنواع النسخ:
النسخ في القرآن ثلاثةُ أنواع:
~ النوع الأول:
نسخ التلاوة
والحكم معاً:
مثاله: مارواه مسلم وغيرهُ عن عائشة رضي الله عنها قالت:
" كان فيما أُنزل: عشر رضعات معلومات يُحَرِّمن،
فنُسخن بخمس معلومات ، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهن مما يُقرأ من القرآن "، وقولها " وهن مما يُقرأ من القرآن ".
والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم توفي وبعض الناس يقرأها على أنها لم ينسخ لفظها، فنسخت لفظًا
وبقي الحكم، لأن القرآن محكم وليس فيه ذكر الرضعات فدل ذلك على أنه نسخ لفظها وبقي
الحكم ولهذا في رواية الترمذي فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، يعني وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم والأمر
على أنه لا يحصل التحريم إلا بخمس معلومات هذا هو الصحيح.
~ النوع الثاني:
نسخ الحكم وبقاء التلاوة:
و مثاله: نسخ حكم آية العدة بالحول مع بقاء تلاوتها، وهذا النوع
هو الذي أُلّفت فيه الكتب، وذكر المؤلفون فيه الآيات المتعددة.
وقد يُقال: مالحكمة في رفع الحكم وبقاء التلاوة؟
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن القرآن كما يُتلى ليُعرف الحكم منه، والعمل به،
فإنه يُتلى كذلك لكونه كلام الله تعالى فيُثاب عليه، فتُركت التلاوة لهذه الحكمة.
وثانيهما: أن النسخ غالباً يكون للتخفيف، فاُبقيت التلاوة
تذكيراً بالنعمة في رفع المشقة.
و أما حكمة النسخ قبل العمل، كالصدقة عند النجوى، فيُثاب
على الإيمان به، وعلى نية طاعة الأمر.
~ النوع الثالث:
نسخ التلاوة مع بقاء الحكم:
وقد ذكروا له أمثلة كثيرة، منها آية الرجم: " الشيخ
والشيخة إذا زنيا فاجلدوهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم ".
تمت
المحاضرة بحمد الله
لتحميل المحاضرة بصيغة PDF إضغط هنا
0 تعليقات على " المحاضرة السابعة في مادة علوم القرآن "