بسم الله الرحمن الرحيم
المحاضرة الخامسة في مادة:
علوم القرآن فوج ¾
**************************
« أسباب النزول (تتمة) »
· التعبير عن أسباب النزول:
لقد قرر العلماء انطلاقا من تتبع أسباب النزول
في القرآن الكريم أن العبارات الدالة على أسباب النزول تأتى على وجهين، لأنها إما أن
تكون صريحة في كون الحادثة أو نحوها سببا في نزول الآية ، فعندئذ تكون تلك الصيغة نصا
في السببية لا يقبل التأويل أو الاحتمال، وإما أن تكون العبارة غير صريحة في السببية
فتكون عندئذ محتملة، فيجوز أن تكون تعبيرا عن السبب، كما يصلح أن تكون تعبيرا عن تفسير
الآيات، وبيان معناها وما تضمنته من أحكام، وفيما يلى بيان كل من الصيغتين في التعبير
عن سبب النزول:
الصيغة الأولى:
هي التي يقول الصحابي مثلا: سبب نزول هذه الآية
كذا. فهذه العبارة صيغة صريحة في السببية، وكذلك إذا أتى بفاء التعقيب، وقرنها بعبارة
الإنزال بعد ذكر حادثة أو سؤال، كأن يقول: حدث كذا وكذا، فأنزل الله تعالى آية كذا،
أو فنزلت آية كذا، أو يقول: سُئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كذا فنزلت آية كذا،
فهذه الصيغة كذلك صريحة في السببية، لأن قائلها أوضح فيها أن نزول الآية أو الآيات
ترتب على وقوع تلك الحادثة ، أو توجيه هذا السؤال ، ومعنى ذلك أن سبب النزول هو هذه
الحادثة ، أو ذلك السؤال.
مثال قول الصحابي: «حدث كذا فنزلت آية كذا». ما
ثبت في الصحيح عن مسروق قال: سمعت خباب بن
الأرت يقول: جئت العاص بن وائل السهمي أتقاضاه حقا لي عنده، فقال: لا أعطيك حتى تكفر
بمحمد ، فقلت: لا ، حتى تموت ثم تبعث ، قال: إني لميت ثم مبعوث؟ فقلت: نعم ، فقال:
إن لي هناك مالا وولدا فنزلت: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ
مالًا وَوَلَداً} [مريم: 77].
الصيغة الثانية:
هي التي لا يُصرح بلفظ السبب ولا يؤتى بتلك الفاء
، ولا بذلك الجواب المبني على سؤال ، بل يقال: نزلت هذه الآية في كذا (مثلاً)، وهذه العبارة ليست
نصًا في السببية ، بل تحتملها وتحتمل أمرًا آخر، هو بيان ما تضمنته الآية من الأحكام.
والقرائن وحدها هي التي تعيِّن أحد هذين الاحتمالين أو تُرجِّحه.
ومن هنا نعلم أنه إذا وردت عبارتان في موضوع واحد:
إحداهما نص في السببية لنزول آية أو آيات، والثانية ليست نصًا في السببية لنزول تلك
الآية أو الآيات هنالك نأخذ في السببية بما هو نصٌ، ونحمل الأخرى على أنها بيان لمدلول
الآية لأن النصَّ أقوى في الدلالة من المحتمل.
· تعدد الاسباب والمنزل واحد:
قد
ترد روايات متعددة في سبب نزول الآية ، وتذكر كل رواية سبباً صريحاً غير ما تذكره الأخرى
.
وللمحققين مقاييس دقيقة في تعدد أسباب النزول
تتلخص فيما يأتي :
1. إذا كانت احدى الروايتين صحيحة ، والاخرى غير صحيحة
اعتمدنا على الصحيحة .
مثال:
ما
أخرجه الشيخان وغيرهما عن جندب البجلي ، قال: « اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو
ثلاثاً ، فأتته امرأة فقالت : يا محمد ، ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، لم يقربك ليلتين
أو ثلاثة ، فأنزل الله: { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ
وَمَا قَلَى} [الضحى:1-3] » .
وأخرج الطبراني وابن ابي شيبة عن حفص بن ميسرة
عن أمه ، عن أمها – وكانت خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم- « أن جرواً دخل بيت النبي صلى الله
عليه وسلم ، فدخل تحت السرير ، فمات ، فمكث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أيام
لا ينزل عليه الوحي ، فقال : يا خولة : ما حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم؟ جبريل لا يأتيني! فقلت في نفسي: لو هيأتُ البيت وكنسته ، فأهويت بالمكنسة تحت
السرير، فأخرجت الجرو ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ترعد لحيته ، وكان إذا نزل
عليه أخذته الرعدة فقال: يا خولة دثريني فأنزل الله: { وَالضُّحَى} ... إلى قوله
{فَتَرْضَى}، قال ابن حجر في شرح البخاري : «قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة
، لكن كونها سبب نزول الآية غريب ، وفي إسناده من لا يُعرف ، فالمعتمد ما في
الصحيحين ».
2. إذا كانت كلتاهما صحيحة ولاحداهما مُرجح يُرجحها على
الثانية أو كون إحداها أصح قُدِّمت
الرواية الراجحة.
مثال:
ما
أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال: « كنت أمشي مع النبي
صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وهو يتوكأ على عسيب ، فمر بنفر من اليهود ، فقال
بعضهم : لو سألتموه ، فقالوا : حدِّثنا عن الروح ، فقام ساعة ورفع رأسه ، فعرفتُ
أنه يُوحى إليه ، حتى صعد الوحي ، ثم قال: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم
مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] ..
وقد أخرج الترمذي وصححه عن إبن عباس قال : « قالت قريش لليهود ، اعطونا شيئاً نسال عنه هذا الرجل ، فقالوا: اسالوه عن
الروح ، فسألوه فانزل الله { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ
رَبِّي}.. الآية ، فهذه الرواية تقتضي أنها نزلت بمكة حيث كانت قريش ، والرواية
الاولى تقتضي أنها نزلت بالمدينة ، وتُرجح الرواية الأولى لحضور ابن مسعود القص ،
ثم لما عليه الامة من تُلقي صحيح البخاري بالقبول وترجيحه على ما صح في غيره ».
3. إذا استوت الروايتان في الصحة ولا مرجح لإحداهما على الأخرى
وأمكن الأخذ بهما معاً ، أخذنا بهما معاً وحكمنا بنزول الآية عقب حصول السببين
كليهما .
مثال:
كآيات اللعان: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] فقد أخرج البخاري
والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس أنها نزلت في هلال بن أُميَّة ، قذف امراته عند
النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « البينة وإلا حد في ظهرك » ، فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم . . إذا رأى أحدنا على امراته رجلاً ينطلق
يلتمس البيِّنة ؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « البينة وإلا حد في ظهرك » فقال هلال : والذي بعثك بالحق غني لصادق ، ولَيُنزلن
الله ما يبرئ ظهري من الحد ، فأنزل عليه جبريل عليه السلام : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد قال : « جاء عويمر إلى عاصم بن عدي ، فقال : سل رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن رجل وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فيُقتل به أم كيف يصنع؟ ....» فجمع بينهما بوقوع حادثة هلال أولاً ، وصادف
مجيئ عويمر كذلك ، فنزلت في شانهما معاً بعد حادتثيهما. قال ابن حجر: لا مانع من
تعدد الاسباب.
4. إذا استوت الروايتان في الصحة ولا مرجح ولا يمكن الاخذ
بهما معاً ، حكمنا بنزول الآية عقب كل سبب منهما ، أي بتكرار نزولها .
مثال:
ما
رُوي عن ابي هريرة : « أن النبي صلى
الله عليه وسلم وقف على حمزة حين استُشهد وقد مُثِّل به ، فقال : « لأمثِّلنَّ بسبعين منهم مكانك » ، فنزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف
بخواتيم سورة النحل »{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ
ۖ }...... إلى آخر السورة » فهذا يدل على نزولها يوم أُحد.
و في
رواية أخرى أخرج الترمذي في الجامع والحاكم في المستدرك على الصحيحين ، عن أبي بن كعب قال : « لما كان يوم
أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ومن المهاجرين ستة فيهم حمزة فمثلوا بهم فقالت
الأنصار لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم قال: فلما كان يوم فتح مكة فأنزل
الله تعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن
صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ } [النحل:126] ، فقال: رجل لا قريش بعد اليوم فقال: « رسول الله صلى الله عليه وسلم كفوا
عن القوم إلا أربعة »» ، والسورة مكية ، فجمع بين ذلك ، بأنها نزلت بمكة قبل
الهجرة مع السورة ، ثم بأُحد ، ثم يوم الفتح ، ولا مانع من ذلك لما فيه من التذكير
بنعمة الله على عباده واستحضار شريعته ، قال الزركشي في البرهان: ( وقد ينزل الشيء
مرتين تعظيما لشانه ، وتذكيراً عند حدوث سببه خوف نسيانه ، كما قيل في الفاتحة ،
نزلت مرتين : مرة بمكة ، وأخرى بالمدينة .
· تعدد النزول والسبب واحد:
قد يكون الأمر الواحد سببا لنزول آيتين أو آيات
متعددة متفرقة ، وذلك عكس ما تقدم ، ولا إشكال في ذلك ، ولا بعد ، فقد ينزل في الوقعة
الواحدة آيات عديدة في سور شتى ، تبيانا وإرشادا للخلق ، وإقناعا للسائل.
1-
من أمثلة ذلك- السبب
الواحد تنزل فيه الآيتان- ما أخرجه البخاري من حديث زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أملى عليه لّا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله...،
فجاء ابن أم مكتوم وقال: يا رسول الله ، لو أستطيع الجهاد لجاهدت - وكان أعمى- فأنزل
الله: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95- 96].
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده عن زيد بن ثابت أيضا
قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لواضع القلم على أذني، إذ أمر بالقتال
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه ، إذ جاء أعمى فقال: كيف لي يا
رسول الله وأنا أعمى ، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى
وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:
91].
2-
ومن أمثلته أيضا-
السبب الواحد تنزل فيه أكثر من آيتين- ما أخرجه الترمذي والحاكم، عن أم سلمة أنها قالت:
يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ، فأنزل الله: {فَاسْتَجابَ
لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ...} [آل عمران: 195].
وأخرج الحاكم عنها- أيضا- قالت: قلت: يا رسول الله،
تذكر الرجال ولا تذكر النساء، فأنزل الله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ...}
[الأحزاب: 35]، وأُنزلت:
{أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى...} الآية.
وأخرج أيضا عنها أنها قالت: تغزو الرجال، ولا تغزو
النساء، وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله سبحانه: {وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ
بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ} [النساء: 32] وأنزل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ...} الآية.
فالظاهر أن واقعة السؤال واحدة ، وأن الآيات الثلاث
نزلت بعد هذا السؤال ، ولا يبعد هذا اختلاف صيغة السؤال، لجواز أن يكون سؤالها عامّا شاملا لكل ما روي ، ولكن
الراوي اقتصر على بعض السؤال دون بعض، أو تذكر بعضه ونسي البعض.
تمت المحاضرة بحمد الله
لتحميل المحاضرة بصيغة PDF إضغط هنا
0 تعليقات على " المحاضرة الخامسة في مادة علوم القرآن "