المحاضرة الرابعة في مادة:
علوم القرآن، فوج ¾
**************************
· طريق معرفة أسباب النزول:
لا طريق لمعرفة أسباب النزول إلا
النقل الصحيح، ولا مجال للعقل فيه إلا بالتمحيص والترجيح ، ولا يحل القول في أسباب
نزول القرآن إلا بالرواية والسماع، ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا
عن علمها، وجدوا في الطّلاَّب، أي بالغوا في طلب العلم.
فالمعول عليه في أسباب النزول: هم
الصحابة، ومن أخذ عنهم من التابعين.
ومعرفة سبب النزول أمر يحصل للصحابة
بقرائن تحتف بالقضايا، وكثيرا ما يجزم بعضهم بالسبب ، و ممن نقل علمه بأسباب النزول
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، فقد روى البخاري عنه قال : "و الذي لا إله غيره
، ما أنزلت سورة من كتاب الله، إلا و أنا أعلم أين نزلت ، و لا أُنزلت آية من كتاب
الله تعالى إلا و أنا أعلم فيمن نزلت ، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل
لركبت إليه ".
· فوائد معرفة أسباب النزول:
·
أنه أداة مهمة لفهم كلام الله تعالى على الوجه الصحيح، وإزالة
ما قد يقع من الإشكال أو الالتباس في فهم بعض الآيات:
ولعل هذه الفائدة من أهم فوائد العلم
بأسباب النزول، وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – في مقدمة التفسير: "ومعرفة سبب النزول يعين
على فهم الآية ، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب".
وقال تقي الدين بن دقيق العيد (ت702هـ): "بيان سبب النزول طريق قوي
في فهم معاني القرآن".
وقال الإمام الطاهر
بن عاشور: "أمر أسباب نزول القرآن دائرا بين القصد والإسراف ، وكان في غض النظر
عنه وإرسال حبله على غاربه خطر عظيم في فهم القرآن".
ويقول الإمام أبو الحسن الواحدي كما نقل عنه الإمام
السيوطي في الإتقان: "لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها".
ولا بأس من ذكر أمثلة تبيِّن هذه الفائدة الجليلة من فوائد علم أسباب النزول:
~ المثال الأول:
رُوِي في الصحيح أن مروان بن الحكم
أشكل عليه معنى قوله تعالى: { لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا
وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ
مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ آل عمران: 188].
وقال: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي،
وأحبَّ أن يحمَدَ بما لم يفعل - معذبًا، لنعذبَنَّ أجمعون. وبقي في إشكاله هذا حتى
بيَّن له ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب، حيث قال: "وما لكم ولهذه؟! إنما
دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- يهود، فسألهم عن شيء، فكتموه إياه، وأخبروه بغيره،
فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم،
ثم قرأ ابن عباس الآية"؛ متفق عليه، واللفظ للبخاري، وبذلك زال الإشكال عنه، وفهم
مراد الله من كلامه هذا ووعيده.
~ المثال الثاني:
روى الإمام البخاري بسنده عن الزهري
عن عروة قال: سألتُ عائشة - رضي الله عنها - فقلت لها: أرأيتِ قول الله: { إِنَّ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [البقرة: 158]، فو الله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، قالت: بئس ما قلتَ يا
بن أختي؛ إن هذه لو كانت كما أوَّلتَها عليه، كانت: لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما،
ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يُهِلُّون لمناةَ الطاغيةِ التي كانوا
يعبدونها عند المُشَلَّل ، فكان مَنْ أَهَّلَ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا
سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، قالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج
أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ
شَعَائِرِ اللَّهِ } [البقرة: 158] الآية، قالت عائشة - رضي الله عنها
- : وقد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف.
· معرفة الحكمة من التشريع، أو بعبارة
أخرى: معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم:
فشرْعُ
اللهِ تعالى للأحكام المختلفة مبْنِيٌّ على الحكمة، فهو الحكيم سبحانه في أقواله وأفعاله،
خلافًا لمن ينفي صفة الحكمة عنه سبحانه، ويقول: إنه يفعل لمجرد المشيئة، كبعض الأشاعرة
- تعالى الله علوًّا كبيرًا عما يقولون - بل إنه سبحانه لا يفعل إلا لحِكَم، ولا يشرع
إلا لحِكَم، كما قال تعالى: ﴿ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ﴾ [القمر: 5].
~ مــــثـــال:
ان السبب الحقيقي لنزول آيات الميراث في القرآن الكريم هو إمرأة وتدعى
" أم كجة الأنصارية" وهي امرأة تزوجت وأنجبت ثلاثة بنات وكان يعايرها الناس
لأنها لم تنجب ولدا وذات يوم خرج زوجها للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في
إحدى الغزوات إلا أنه استشهد .
وعندما علم شقيق زوجها بنبأ استشهاده
ذهب الى منزله والقى بعبائته السوداء على أم كجة الأنصارية وهذا معناه في عرف العرب
أنه حجزها للزواج بعد انتهاء فترة العدة ثم استحوذ على كل شيء في المنزل ورفض ترك ميراث
البنات الثلاثة ، فتوجهت ام كجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتشكو له ما حدث فاستدعاه
رسول الله وسأله اين حق البنات في الميراث ؟ ، فقال له يا رسول الله إنما الميراث عندنا
لمن حمل السيف وركب الحصان ودافع عن شرف القبيلة .
وعلى الفور نزل سيدنا جبريل عليه السلام من العرش ليبلغ رسول الله بآيات المواريث
وبدأ بقوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ ۚ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا
تَرَكَ ۖ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ ... } الى آخر الآيات ، وأحضر الرسول التركة ووزعها
كما أمر الله تعالى.
· تعيين من نزلت فيهم الآيات
القرآنية لبيان فضلهم:
من فوائد معرفة أسباب النزول معرفة
من نزلت فيه الآية على التعيين، حتى لا تُحمَلَ على غيره، ومن الأمثلة :
سبب نزول الآية الكريمة {ولا يأتل
أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا
وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم }[النور:22].
..كلمة ولا يأتل :اي ولا يحلف
نزلت بسبب قسم سيدنا أبي بكر الصديق
رضي الله عنه وأرضاه أن يمنع النفقة عن مسطح بن أثاثة وكان مسطح من اللذين تعهد أبو
بكر الصديق بالنفقة عليهم نظراً لحاجتهم وفقرهم وقربهم منه فأقسم أبو بكر الصديق ان
لا ينفق عليه بسبب خوضه في عرض السيدة عائشة مع اللذين خاضوا في حادثة الإفك.
فنزل قوله تعالى: {ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة .....}[النور:22].
فلما سمع أبو بكر قال : (والله إني
لأحب أن يغفر الله لي) ، فرجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا
أنزعها منه أبدا .
مثال آخر:
قوله تعالى:{ ومن الناس من
يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد}[البقرة:207]
هذه الآية نزلت في صهيب بن سنان الرّومي
وذلك أنّه لمّا أسلم بمكّة وأراد الهجرة منعه النّاس أن يهاجر بماله وإن أحب أن يتجرّد
منه ويهاجر فعل، فتخلّص منهم وأعطاهم ماله فأنزل الله فيه هذه الآية.
ويُروى أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم قال له : "رَبِحَ البيعُ صهيب"...
·
دفع توهم الحصر:
فالآية قد تفيد بظاهرها الحصر،
لكن سبب النزول يدفع هذا التوهم، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي
مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً
أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 145].
نقل السبكي عن الشافعي أنه قال ما
معناه: إن الكفار لما حرَّموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرم الله، وكانوا على المضادة
والمحادة، جاءت الآية مناقضة لغرضهم، فكأنه قال: لا حلال إلا ما حرمتموه، ولا حرام
إلا ما أحللتموه، نازلاً منزلة من يقول لك: لا تأكل اليوم حلاوة، فتقول: لا آكل اليوم
إلا حلاوة، والغرض: المضادة، لا النفي والإثبات على الحقيقة، فكأنه تعالى قال: لا حرام
إلا ما أحللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، ولم يقصد حل
ما وراءه ، إذ القصد إثبات التحريم ، لا إثبات الحل" .
وقد نقل هذا الكلامَ الإمام السيوطي - رحمه الله تعالى - دون عزو.
·
بيان عناية الله تعالى برسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم-
في الدفاع عنه:
فمن فوائد معرفة أسباب النزول ظهور عناية الله - جل جلاله- بنبيِّه - صلى الله
عليه وسلم- والدفاع عنه، ومثال على ذلك:
قوله تعالى:{ إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير
لكم ......الآية} [النور:11]
آيات الإفك التي نزلت دفاعًا عن فراشه -صلى الله عليه وسلم- وتطهيرًا له عما
دنسه به المنافقون والأفاكون، وتبرئة لأحب وأعز أزواجه إليه، أم المؤمنين عائشة بنت
الصديق - رضي الله عنها.
ومن الفوائد أيضا :
- الاستعانة على تفسير القرآن.
- تخصيص الحُكم بالسبب عند مَن يرى
أنَّ العبرة بخصوص اللفظ، لا بعموم السبب.
- تيسير الحفظ، وتسهيل الفَهم وتثبيت
الوحي.
- الوقوف على بلاغة القرآن الكريم؛
حيث مراعاة الكلام لمقتضى الحال.
- أن تكون الأُمة أكثر صِلة بالله،
وأقوى تعليق به.
- بيان أن القرآن نزل من عند الله - جل
وعلا -
.
تمت المحاضرة بحمد الله
لتحميل المحاضرة
0 تعليقات على " المحاضرة الرابعة في مادة علوم القرآن "