بسم الله الرحمن الرحيم
المحاضرة الثامنة في مادة:
أصول الفقه - الأدلة الشرعية فوج ¾
**************************
« الدليل السابع: شرع من قبلنا »
· تعريف:
شرع من
قبلنا هو الأحكام التي شرعها الله تعالى للأمم السابقة عن طريق أنبيائه كإبراهيم
وموسى وداوود وعيسى عليهم السلام . والكلام ينحصر في أن تلك الأحكام جزء من
شريعتنا ، وهل نحن مكلفون بها أولا ؟
· أقسامه:
القسم الأول: الأحكام التي لم تذكر في
شريعتنا في قرآن ولا سنة. وهذه ليست شرعا لنا بالإتفاق.
القسم الثاني: الأحكام التي ذكرت في
القرآن أو السنة وهي ثلاثة أنواع:
الأول: الأحكام التي نسخت من شريعتنا ، وهي ليست شرع لنا
بالإتفاق ، مثل المذكور في آية: { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا
حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ۖ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا
عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ
مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ۚ ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ ۖ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } [الأنعام:146]. فتحريم كل ذي ظفر وتحريم شحوم البطن المحيطة بالكرش ماعدا السنم
والحوايا ، أي الأمعاء ، نُسخ من شرعنا بآية: { قُل لَّا أَجِدُ
فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ
مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:145].
الثاني: الأحكام التي أقرت في شريعتنا ، وهي شرع لنا ، مثل الصيام
والاضحية.
الثالث: الأحكام التي قصها الله تعالى علينا في القرآن أو
ذكرت على لسان الرسول صل الله عليه وسلم ، من غير إقرار ولا إنكار لها ، وهذه هي
محل الخلاف ، مثل آية قسمة الماء بين النبي صالح عليه السلام وبين قومه: { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ
الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ۖ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} [القمر:28].
· حجيته:
إختلف العلماء في هذا النوع الأخير على رأيين :
القول الأوّل: أنّه حجة وشرع لنا. وهذا مذهب جمهور الحنفية و المالكية وبعض الشافعية
وأحمد في الرواية الراجحة عنه.
الأدلة:
توجد آيات كثيرة تدل على
اعتبارها شرعًا لنا, منها: قوله تعالى: { أُولَٰئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [الأنعام:90]. وقوله: { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا
} [النحل:123]. وقوله تعالى: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا
الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [الشورى:13].
فإن قال قائل: أما الآيات
الثلاث: فالمراد بها التوحيد، بدليل: أنّه أمره باتباع هدى جميعهم.
قلنا: الشريعة من جملة
الهدى، فتدخل في عموم قوله تعالى: { فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ
} وهي من جملة ما
أوصى الله به الأنبياء عليهم السلام[14].
القول الثاني وهو قول النفاة: ليس شرعًا لنا، وهو
قول عند الشافعية في الراجح عندهم والأشاعرة والمعتزلة والشيعة.
الأدلة:
قوله تعالى: لكل { لِكُلٍّ جَعَلْنَا
مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}[المائدة:48] ، فدلّ على أنّ كل نبي اختص بشريعة لم
يشاركه فيها غيره. وقالوا إن شريعتنا ناسخة بالإجماع للشرائع السابقة إلا إذا ورد
في شرعنا ما يقرره .
والجواب: إن شريعتنا ناسخة
لما خالفها فقط ، أما ما سكت عنه بدون نسخ فهو تشريع لنا ضمنا ، لأنه حكم إلهي ،
ولأن القرآن مصدق لما بين يديه من التوراة والإنجيل ، بدليل بقاء مشروعية القصاص
وحد الزنى والسرقة ونحوهما.
ويلاحظ أن شرع من قبلنا ليس
دليلا مستقلا من أدلة التشريع ، وغنما هو عمل بمقتضى القرآن والسنة ، لأنه يشترط
للعمل به أن يقصه الله تعالى علينا أو رسوله عليه الصلاة والسلام من غير إنكار ولا
نسخ.
« الدليل الثامن: مذهب الصحابي »
· تعريف:
المراد
بمذهب الصحابي: هو مجموعة الآراء الإجتهادية والفتاوى الفقهية الثابتة عن واحد
من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم . والصحابي عند الأصوليين: هو كل من لقي
الرسول صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ، ولازمه زمنا طويلا. ومات على ذلك.
واتفق العلماء على أنه:
~ لا خلاف في الأخذ بقول الصحابي فيما لا مجال للرأي أو الإجتهاد فيه.
~ لا خلاف فيما أجمع عليه الصحابة صراحة ، أو كان مما لا يعرف له مخالف.
كتوريث الجدة السدس.
~ لا خلاف كذلك في أن قول الصحابي المقول
اجتهادا ليس حجة على صحابي آخر ، لأن الصحابة اختلفوا في كثير من المسائل ، وإنما
الخلاف في فتوى الصحابي بالإجتهاد المحض بالنسبة للتابعي ومن بعده .
· حجية أقوال الصحابة:
إختلف الفقهاء بخصوص حجية مذهب الصحابي إلى فريقين:
أولا: القائلون بحجية مذهب الصحابي : وهم
الحنفية والمالكية والحنابلة وقد احتجوا ب :
أ.
النقل:
- القرآن: { وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ
رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] فإن الله مدح الذين
اتبعوهم فكان اتباعهم في هديهم أمرا يستوجب المدح وليس أخذ كلامهم على أنه حجة إلا
نوعا من الإتباع.
- السنة: "أنا أمان لأصحابي وأصحابي أمان
لأمتي" . وليس
أمانهم للأمة إلا بأن ترجع الأمة إلى أقواله ، اذا أمان النبي لهم برجوعهم إلى هدي
النبي الكريم.
ب. العقل:
أن
الصحابة أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من سائر الناس ، وإن كانوا عرضة
للخطأ في اجتهادهم كغيرهم لانتفاء العصمة عليهم ، إلا أن الغالب موافقة قولهم للحق
والصواب ، لكمال علمهم بالعربية ، وعدالتهم وفضلهم وسابقتهم ، وكثرة اطلاعهم على
أسباب النزول ، وورود الأحاديث ، وعلمهم بمقاصد الشريعة ، وهم الذين شاهدوا مواضع
التنزيل ، ولهم من الإخلاص والعقل والإتباع للهدى النبوي ما يجعلهم أقدر على معرفة
مرامي الشر ، لأنهم حضروا الأحوال التي نزلت فيها النصوص فإدراكهم لها يكون أكثر
من إدراك غيرهم ويكون كلامهم فيها أجدر الكلام بالإتباع.
إن احتمال أن تكون آراؤهم سنة نبوية احتمال قريب لأنهم كثيرا ما كانوا
يذكرون الأحكام التي بينها النبي الكريم لهم من غير أن يسندوها إليه . لأن أحدا لم
يسألهم عن ذلك ، ولما كان ذلك الإحتمال قائما مع أن رأيهم له وجه من القياس والنظر
كان رأيهم أولى بالإتباع ، لأنه قريب من المنقول موافق للمعقول. لأنه إن أثر عنهم
رأي أساسه القياس ، ولنا من بعدهم قياس يخالفه ، فالاحتياط اتباع رأيهم ، لأن
النبي صلى الله عليهم وسلم قال: " خير القرون قرني ، ثم الذي يليه ، ثم الذي
يليه ".
ثانيا: النفاة ، ويمثلهم الشافعية والمعتزلة
والشيعة ، ويقولون بأن مذهب الصحابي ليس حجة مطلقا ، مستدلين:
- بأن قول الصحابي مجرد رأي فردي اجتهادي صادر من غير معصوم ، وكل
مجتهد يجوز السهو والخطأ عليه.
- ولأن الصحابة كانوا يقرون التابعين على اجتهادهم ، وكان للتابعين
آراء مخالفة لمذهب الصحابي ، فلو كان قول الصحابي حجة عليه لما ساغ للتابعي هذا
الإجتهاد ، ولأنكر عليه الصحابي مخالفته ، فهذا علي رضي الله عنه تحاكم في درع له
وجدها يهودي إلى قاضيه شريح ، فخالف عليا في رد شهادة ابنه الحسن للقرابة ، وكان
علي يرى جواز شهادة الإبن لأبيه.
- وكان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا سُئل عن مسألة يقول: سلوا
مولانا الحسن ، أي الحسن البصري ، قالوا فهذا دليل على أن قول الصحابي ليس بحجة.
والظاهر أن مذهب الصحابي يفيد
ترجيح اجتهاد على آخر ، لكنه لا يعد دليلا شرعيا مستقلا بذاته ، لأن الحجية تحتاج
إلى دليل صريح من الكتاب والسنة ، والله أعلم.
« الدليل التاسع: سد الذرائع »
· تعريف:
الذرائع جمع ذريعة: والذريعة معناها الوسيلة التي يتوصل بها إلى شيء آخر
مطلقا .
وفي الإصطلاح: هي ما يكون وسيلة وطريقا إلى شيء ممنوع شرعا ، وهذا هو
الغالب المشهور في استعمالها ، ومعنى سدها ، منعها بالنهي عنها.
·
إن الشارع في نهيه عن المفاسد لم يقصر نهيه
عن الأفعال الموصلة بنفسها إلى المفاسد، وإنما قصد إلى كل طريق تفضي إليها بطريق
غير مباشرة ، فهو بذلك يسد السبل الموصلة غلى المفاسد ، وإن كانت في ذاتها مباحة
أو لا مفسدة فيها ، لأنه لا يعقل أن يحرم شيئا ثم يبيح الوسائل الموصلة إليه ،
وإلا كان نقضا لتحريمه ، وهذا لا يتصور من عاقل ، فكيف بأحكم الحاكمين سبحانه ؟
·
ومن يتتبع تشريعات القرآن الكريم والسنة
النبوية يجد من ذلك الشيء الكثير.
يقول الله تعالى: { وَلَا تَسُبُّوا
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] . فقد نهى الله تعالى المؤمنين أن يسبوا أصنام الكفار وهو في حد ذاته
مباح ، بل مطلوب ، لأنه تحقير لشأن المشركين ، وإذلال لهم ، فنهاهم عن ذلك لئلا
يكون ذريعة لسب الله تعالى ، وذلك من أكبر المفاسد.
·
ويقول تعالى: { وَلَا يَضْرِبْنَ
بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } [النور:31] . فقد نهى الله تعالى النساء أن يضربن الأرض بأرجلهن في مشيتهن ليسمع
الرجال صوت خلاخلهن ، لأنه ذريعة إلى تطلع الرجال إليهن فتتحرك فيهم الشهوة ،
فيقاس عليه كل فعل يثير الفتنة كالتزيين الفاضح ، والتعطر عند الخروج ، حتى ولو
كان للصلاة.
·
كما عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعده بهذا الأصل ، فأجمعوا على قتل الجماعة بالواحد ، وإن لم يكن فيه التماثل
الذي بني عليه القصاص لأن قد يكون ذرعة لسفك دماء الابرياء.
·
كما حكموا بتوريث المطلقة طلاقا بائنا في
مرض الموت ، لأن الطلاق في هذه الحالة ذريعة غلى قصد حرمان المرأة من الإرث ، بعد
أن تعلق حقها بالمال بسبب المرض.
ويلاحظ أن أكثر الأمثلة في الذرائع إنما هي لدفع الفساد. ولكن الذرائع يؤخذ
بها أيضا في جلب المنافع ، لذا يقول القرافي رحمه الله: " إعلم أن الذريعة
كما يجب سدها ، يجب فتحها ، وتكره وتندب وتباح" ، فالطريق إلى الحرام حرام ،
والطريق إلى المباح مباح ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، إذ الوسائل تأخذ حكم
المقاصد .
فالأصل في اعتبار الذرائع هو النظر في مآلات الأفعال ، فيأخذ الفعل حكما يتفق
مع ما يؤول إليه ، والأعمال بالنسبة لمآلاتها أربعة أقسام:
أ.
ما يكون أداؤه إلى الفساد قطعيا: كحفر بئر
خلف باب الدار في طريق مظلم بحيث يقع فيه الداخل بلا شك ، أو كحفر بئر في الطريق
العام ، وقد يكون الفعل مأذونا فيه كمن حفر في بيته بئرا ، يترتب عليه هدم جدار
جاره ، وهذا له نظران:
- أحدهما: أصل الإذن وقد روعي فيه نفع ذاتي للمأذون.
ملاحظة : توقف الأستاذ عند هذه النقطة. فلا يمكنني استباق الأحداث بالإتيان بباقي
المحاور.
تمت المحاضرة بحمد الله
لتحميل المحاضرة بصيغة PDF إضغط هنا
0 تعليقات على " المحاضرة الثامنة في الأدلة الشرعية - أيت المكي "