بسم الله الرحمن الرحيم
المحاضرة السابعة في مادة:
أصول الفقه - الأدلة الشرعية فوج ¾
**************************
« الدليل الخامس: الإستحسان »
· تعريفه:
الاستحسان في اللغة مشتق من الحسن، والحسن ضد القبح، واستحسن
الشيء أي عده حسنًا.
والاستحسان في الاصطلاح هو ترجيح قياس خفي على قياس جلي بدليل ، أو استثناء حكم
جزئي من أصل كلي أو قاعدة عامة ، بناء على دليل خاص يقتضي ذلك.
· أنواعه:
وينقسم الاستحسانُ تبعًا للدليل الذي
يثبت به إلى:
1.
الاستحسان بالنصِّ:
وهو أن يرد نص معين يتضمن حكماُ لمسالة خلافاً للحكم الكلي الثابت بالدليل
العام أو القاعدة العامة . والنص إما أن يكون من القرآن أو من السنة.
ـ مثال النص بالقرآن: تنفيذ الوصية، فإن القياس يقتضي عدم جوازها؛ لأنَّها
تمليك مضاف إلى ما بعد الموت وهو زمن زوال الملكية إلَّا أنها استثنيت من تلك القاعدة
العامة بقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء:
١٢].
ـ ومثاله من السُّنَّة: بقاء صوم المفطر ناسيا، فإن القياس يقتضي فساد الصوم
لعدم الإمساك عن الطعام، لكنه استثني بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ
صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ»،
ومعنى هذا الاستحسان أن يرد نص في المسألة يتضمن حكما بخلاف الحكم الكلي الثابت بالدليل
العام ، وقد تقدم أن هذا لا ينكر وإنما الخلاف يرجع إلى العبارة.
2.
الاستحسان بالإجماع:
وهو
أن يفتي المجتهدون في مسألة على خلاف الأصل في أمثالها ، أو أن يسكتوا عن فعل
الناس دون إنكار.
- ومثاله:
عقد الإستصناع ، وهو التعاقد مع صانع على صناعة شيء مقابل ثمن معين ، فإن مقتضى القياس
بطلانه ، لأن المعقود عليه وقت العقد معدوم ، لكن عُدل عن هذا الحكم إلى حكم مخالف
له وهو جواز عقد الاستصناع لتعامل الناس به في كل الأزمان من غير نكير فكان إجماعا
يترك به القياس.
3.
الاستحسان بالعُرف و العادة:
وهو
العدول عن حكم القياس في مسألَة إلى حكم يخالفه، عملاً بالعرف وجريا على ما اعتاده
الناس،
- مثاله: إجارة الحَمَّام بتعيين الأُجرة مع
الجهالة لقدر الماء المستعمل في الاستحمام ومُدَّة الإقامة فيه، فالقياس يقتضي بطلان
عقد الإجارة ، لأنَّها عقدٌ على مجهولٍ، والجَهالة تُبْطِلُ العقدَ وتُفْسِدُهُ، لكن
عُدل عن هذا الحكم إلى حكم مخالفٍ وهو جواز الإجارة له عملًا بالعُرْفِ استحسانًا لما
في ترك بيان المنفعة منعًا للمضايقة على ما اعتاده الناس رعايةً لمصالحهم وحاجياتهم.
4.
الاستحسان بالضرورة:
وهو العدول عن حكم القياس إلى حكم آخر مخالف له ضرورة
وحاجة.
- ومثاله: تطهير الآبار والحياض التي تقع
فيها نجاسة ، فمقتضى القياس ألا تطهر بنزح الماء كله أو بعضه ، لاختلاط الباقي
بالنابع ، وتنجس الدلو بملاقاة الماء ، بعودتها المتكررة في البئر ، إلا أنهم
استحسنوا ترك القياس والحكم بطهارتها بنزح مقدار من الماء للضرورة.
5.
الاستحسان بالمصلحة:
و هو
أن توجد مصلحة تقتضي استثناء المسألة من أصل عام أو قاعدة كلية. كتضمين الأجير المشترك
عند المالكية، وإن لم يكن صانعاً، فإن الأصل عندهم عدم تضمينه ، لأنه مؤتمن ، إلا أنهم
قالوا بتضمينه استحساناً للمصلحة.
· حجية الإستحسان:
اتجه العلماء في الاستحسان اتجاهين
، لكنهما لم يلتقيا على محل نزاع واحد . فقال الجمهور: الاستحسان حجة شرعية. قال الشافعية والشيعة والظاهرية :
الاستحسان ليس بحجة ، قال الغمام الشافعي:
من استحسن فقد شرَّع ، أي ابتدع شرعاً من عنده.
- وأدلة مثبتي الاستحسان ما يلي:
1. إن
الأخذ بالاستحسان ترك العسر إلى اليسر ، وهو أصل في الدين ، قال الله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].
2. إن
ثبوت الاستحسان يعتمد على دليل متفق عليه ، وهو إما النص أو الإجماع أو الضرورة أو
القياس الخفي أو العرف أو المصلحة كما تقدم . وكل ذلك يقتضي ترجيح القياس الخفي
على القياس الجلي ، والاستثناء الجزئي من الحكم الكلي ، وذلك مقبول شرعاً.
- أما أدلة النفاة ما يلي:
1. لا
يجوز الحكم إلا بالنص أو القياس على النص ، لأن في غير ذلك شرعاً بالهوى ، والله
تعالى يقول: { وَأَنِ احْكُم
بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] .
2. العقل
أساس الاستحسان ، وفيه يستوي العالم والجاهل ، فيجوز لكل إنسان أن يشرع شرعاً
جديداً.
3. لم
يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يفتي بالاستحسان ، وإنما كان ينتظر الوحي.
ويلاحظ أن الأدلة تتجه
لإنكار التشريع بالهوى ، وهذا متفق عليه ، وأما حقيقة الاستحسان عند القائلين به
هو العمل باقوى الدليلين ، فلا مجال للخلاف فيه ، والعلماء كلهم يأخذون به بين موسع
ومضيق . والاستحسان في الحقيقة لا يعد مصدراً مستقلاً ، وإنما هو عمل راجع للقياس
أو المصلحة ونحوهما.
« الدليل السادس: المصلحة المرسلة »
· تعريف:
المصلحة المرسلة أي المنفعة
المطلقة: وهي المصلحة التي لم يشرع الشارع حكما لتحقيقها، ولم يدل دليل شرعي على اعتبارها
أو إلغائها ، وسميت مطلقة لأنها لم تقيد بدليل اعتبار أو دليل إلغاء .
وتوضيح هذا التعريف إن تشريع الأحكام
ما قصد به إلا تحقيق مصالح الناس ، أي جلب نفع لهم أو دفع ضرر أو رفع حرج عنهم ، وإن
مصالح الناس لا تنحصر جزئياتها ، ولا تتناهى أفرادها وإنها تتجدد بتجدد أحوال الناس
وتتطور باختلاف البيئات ، وتشريع الحكم قد يجلب نفعا في زمن وضررا في آخر، وفي الزمن
الواحد قد يجلب الحكم نفعا في بيئة ، ويجلب ضررا في بيئة أخرى.
مثال على هذه المصالح :
كالمصلحة التي رآها الصحابة في جمع المصحف ، واتخاذ الدواوين ، والسجون ، وصك
النقود ، وإبقاء الاراضي الزراعية التي فتحوها بيد أهلها ووضع الخراج عليها.
· أنواع المصالح المعتبرة:
إذا كانت المصالح أساسا لبعض الأحكام الشرعية
، ودلَّ دليل على اعتبارها عللاً للأحكام ، سميت المصالح المعتبرة شرعاً ، وهي ذات
ثلاث مراتب :
1.
المصلحة الضرورة :
وهي ما كانت المصلحة فيها في محل الضرورة بحيث يترتب
على تفويت هذه المصلحة إختلال في الحياة في الدنيا ، وضاع النعيم وحل العقاب في
الآخرة . مثل حفظ
المقاصد الخمس الكلية الضرورية ، وهي : حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال.
2.
المصلحة الحاجية :
وهي
ما كانت المصلحة فيها في محل الحاجة إليها لرفع الحرج والضيق لا الضرورة ، فيحصل بتحقيق
هذه المصلحة التسهيل وتحصيل المنافع ولا يترتب على فواتها شيء من الإختلال في
الحياة. مثل أنواع الرخص في
قصر الصلاة وجمعها للمسافر ، وإباحة الفطر في رمضان للحامل والمرضع والمريض ،
والمسح على الخفين .....
3.
المصلحة التحسينية:
وهي
ما ليس ضروريا ولا حاجيا ولكنها من باب الجري على مكارم الأخلاق واتباع أحسن المناهج. مثل الطهارات للصلوات ، والتزيين باللباس والطيب ،
والأمر بالرفق والإحسان.
· حجية المصلحة المرسلة:
اتجه العلماء في المصالح المرسلة اتجاهين:
1.
المنكرون: الذين يمنعون الأخذ بها ، ولهم أدلة موجزها وجوب الحفاظ على وحدة الشريعة
فلا تختلف الأحكام بين جيل وجيل ، فلا يقال في الشريعة شيء بالأهواء والأغراض
والمآرب. لأن تغيير وجه الحكم أو المصلحة يقتضي تغير الحكم ، وللعمل بها يشترط
وجود الملائمة بينها وبين مقاصد الشريعة.
2.
المثبتون: واحتج القائلون بها بأدلة كثيرة أهمها ما يلي:
- أن الحياة في تطور مستمر ، ومصالح الناس تتجدد وتتغير في كل زمن ،
فلو لم تشرع الأحكام المناسبة لتلك المصالح ، لوقع الناس في حرج ، ولوقف التشريع
عن مسايرة الزمن ومراعاة مصالح العباد ، وهذا مصادم لمقصد التشريع في مراعاة مصالح
الناس وتحقيقها.
- قامت أحكام الشريعة على اعتبار المصالح ورعايتها وتحقيقها رحمة
بالناس ، فقال تعالى :{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
- روعيت المصالح بنحو أوسع من القياس في اجتهادات الصحابة والتابعين ، وأئمة
الإجتهاد حتى كان ذلك بمنزلة الإجماع ، بدليل جمع أبي بكر للقرآن في مصحف واحد بإشارة
من عمر رضي الله عنهما ، قائلا: «إنه
والله خير ومصلحة للإسلام»
، وحارب أبو بكر مانعي الزكاة ، واستخلف من بعده عمر ، وأبقى عمر الاراضي المفتوحة
بيد أهلها تحقيقاً لمصلحة المسلمين العامة ، وأمر بقتل الجماعة بالواحد سداً
لذريعة الخلاص من القصاص ، ولم يقم حد السرقة عام المجاعة.
وهذا كله عمل بالمناسب المرسل أو
المصلحة المرسلة ، لأنها مصلحة مجردة ملائمة لمصالح أحكام الشريعة ، ولا دليل من
الشرع على إلغائها . قال الغزالي رحمه الله من الشافعية : «.... وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود
شرعي عُلم كونه مقصوداً بالكتاب والسنة والإجماع ، فليس خارجا من هذه الاصول ،
لكنه لا يسمى قياسا ، بل مصلحة مرسلة».
· شروط المصلحة المرسلة:
وضع العلماء شروطاً للعمل بالمصالح المرسلة و هذه الشروط
هي:
1. ألا تعارض أصلاً ثابتاً بنص أو إجماع ، لأن الأصل في
الشريعة مصلحة الدين، فيجب التضحية بما سواها مما قد يعارضها من المصالح الأخرى إبقاء
لها وحفاظاً عليها.
2.
أن تكون معقولة
بذاتها وحقيقية وليست وهمية بحيث لو عرضت على العقول السليمة لتلقتها بالقبول.
3. وأن تكون المصلحة عامة للناس وليست مصلحة شخصية. لأن التشريعات جاءت للناس كافة.
« تمت المحاضرة بحمد الله »
لتحميل المحاضرة بصيغة PDF إضغط هنا
0 تعليقات على " المحاضرة السابعة في الأدلة الشرعية - أيت المكي "